يستهل ربنا( تبارك وتعالي) سورة الذاريات بقسم عظيم بأربع من آيات الله في الكون ــ والله تعالي غني عن القسم لعباده ــ بأن وعده لصادق, وأن الدين الإسلامي الذي أنزله علي فترة من الرسل, والذي أتمه وأكمله في بعثة خاتم أنبيائه ورسله صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين لحق واقع....!!!
ثم يكرر ربنا( سبحانه وتعالي) القسم بالسماء ذات الحبك علي أن الناس مختلفون في أمر يوم الدين بين مكذب ومصدق, وتستعرض الآيات حال كل من المجموعتين في هذا اليوم العصيب, ثم تعود إلي الاستدلال بآيات الله في كل من الأرض والأنفس والآفاق ومنها قول الحق( تبارك وتعالي):
وفي السماء رزقكم وما توعدون
ثم يأتي القسم الحاسم الجازم برب السماء والأرض ان هذا كله حق, كما ينطق المنكرون في هذه الحياة الدنيا, وهم يدركون حقيقة ما ينطقون, فلا يجوز لهم أن يشكوا فيه أو أن ينكروه كما لا يشكون في نطقهم الذي ينطقون...!!
وبعد ذلك تتحرك بنا السورة إلي عرض شيء من الوقائع التاريخية من قبيل ضرب المثل, واستخلاص العبر, والدعوة إلي إخلاص العبادة لله وحده( بغير شريك ولا شبيه ولامنازع), وذلك من مثل قصص سيدنا إبراهيم( عليه السلام) مع ضيفه وقومه, وسيدنا لوط( عليه السلام) وما حاق بقومه من عذاب, وسيدنا موسي( عليه السلام) وفرعونه الذي أغرقه الله( تعالي) وجنده في اليم, وقوم عاد وطمرهم بالرمال السافية, وقوم ثمود الذن دمروا بالصاعقة, وقوم نوح( عليه السلام) الذين أغرقوا بالطوفان لفسقهم...!!
وتعاود السورة الكريمة القسم بالسماء وتوسيع الله المستمر لها, وبالأرض وفرشها وتمهيدها, وخلق كل شيء من زوجين تأكيدا لوحدانية الله( تعالي) المطلقة فوق جميع خلقه..!!!
ثم تعرج بنا السورة إلي حقيقة أن كل رسول جاء بالحق من رب العالمين قد اتهمه الكفار من قومه بالسحر أو بالجنون ظلما وطغيانا من عند أنفسهم, وفي ذلك مواساة من رب العباد الذي يطالب خاتم أنبيائه ورسله بالاستمرار في التذكير بالله, والدعوة إلي دينه الحق علي الرغم من كل ذلك, لعل الذكري تنفع المؤمنين.
والهدف من هذا الاستعراض المكثف لآيات الله في الكون, والاستعراض الخاطف لقصص عدد من الأمم البائدة هو وصل العباد بخالقهم, وربط قلوبهم بعوالم الغيب, كما يصفها خالق الكون ومبدع الوجود لا كما تتصورها أوهام الغافلين الضالين من الكفار والمشركين.
والذي يرتبط قلبه بخالقه, ويؤمن بالغيب, كما أنزله في محكم كتابه, وسنة نبيه, تخطي الدنيا الي الاخرة, دون أن يهمل واجباته في الحياة, ودون أن تشغله التكاليف المادية لهذه الحياة عن إخلاص العبادة لله, وفي مقدمة تلك التكاليف الجري علي المعايش لكسب الرزق الحلال, والذي قد يتخيل البعض أنه يمكن أن يشغل الإنسان عن رسالته الحقيقية في هذه الحياة والتي تتلخص في:
عبادة الله( تعالي) بما امر, وحسن القيام بواجب الاستخلاف في الأرض, وهما وجهان لعملة واحدة تمثل رسالة كل من الجن والإنس في هذه الحياة, والتي لخصها ربنا( تبارك وتعالي) في السورة نفسها بقوله( عز من قائل): وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون* ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون* إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين*.
(الذاريات:56 ــ58).
هذا وقد تباينت آراء المفسرين في قول الحق( تبارك وتعالي)
وفي السماء رزقكم وما توعدون*.
بين قائل بالمطر, وقائل بالقرار الإلهي في تقسيم الرزق وتوزيعه بين العباد, وقائل بالثواب والعقاب أو بالجنة والنار, أو بها جميعا ولكن الدراسات الكونية الحديثة قد اضافت بعدا جديدا, فأكدت أن جميع ما يحتاجه الإنسان والحيوان والنبات من الماء, ومن مختلف صور المادة والطاقة إنما ينزل إلي الأرض من السماء بتقدير من الرزاق الحكيم العليم الذي ينزله بقدر معلوم لقوله( عز من قائل):
ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن: ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير*( الشوري:27)
ولقوله( سبحانه)!
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم*.( الحجر:21)
رزق السماء في اللغة العربية
(الرزق) في اللغة العربية هو ما ينتفع به من النعم, والجمع( أرزاق), و(الرزق) أيضا هو العطاء الجاري دنيويا كان أم أخرويا, وهو كذلك النصيب المقسوم للإنسان فيصل إلي يده سواء كان مما يصل إلي الجوف ويتغذي به,أو يكتسي ويتزين به, أو يتجمل به من مثل الخلق الحسن والعلم النافع يقال:( رزقه) الله( يرزقه)( رزقا) بكسر الراء,( والمصدر الحقيقي فتح الراء), والإسم يوضع موضع المصدر, و(ارتزق) بمعني أخذ( رزقه), و(الرزقة) ما يعطي دفعة واحدة, وقد تأتي لفظة( الرزق) بمعني( شكر الرزق) من مثل قوله( تعالي):
وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون( الواقعة:82) أي تجعلون نصيبكم من النعمة أو شكركم عليها أنكم تكذبون رسالات ربكم.
ويقال رجل( مرزوق) أي مجدود( محظوظ), وقد يعتبر كل من المال والولد والجاه والعلم من( الرزق), كما قد يسمي المطر( رزقا), ويمكن أن يحمل( الرزق) علي العموم فيما يؤكل ويلبس ويستعمل, وكل ما يخرج من الأرض أو ينزل من السماء, و(الرازق) هو الله تعالي خالق( الرزق) ومعطيه, ومسببه, وموزعه بالقسط, وإن كانت هذه الصفة يمكن أن تستخدم للبشر, أما( الرزاق) فهو اسم من أسماء الله الحسني وصفة من صفاته العليا لا يوصف بها غيره( سبحانه وتعالي).
وعن( السماء) فهي اسم مشتق من( السمو) بمعني الارتفاع والعلو, تقول:( سما),( يسمو)( سموا) فهو( سام) بمعني علا, يعلو علوا, فهو عال, أي مرتفع, وذلك لأن السين والميم والواو أصل يدل علي الارتفاع والعلو, يقال:( سموت) و(سميت) بمعني علوت وعليت للتنويه بالرفعة والعلو, وعلي ذلك فإن سماء كل شيء أعلاه, ولذلك قيل لسقف البيت سماء لارتفاعه, وقيل للسحاب سماء لعلوه, واستعير اللفظ للمطر بسبب نزوله من السماء, وللعشب لارتباط منبته بنزول ماء السماء, ومن هنا قيل:( كل ما علاك فأظلك فهو سماء).
ولفظة( السماء) في العربية تذكر وتؤنث( وإن كان تذكيرها يعتبر شاذا), وجمعها( سماوات), وهناك صيغ أخري لجمعها ولكنها غريبة.
رزق السماء في القرآن الكريم
ورد الفعل( رزق) بمشتقاته في كتاب الله مائة وثلاثا وعشرين(123) مرة, تنسب الرزق إلي الله تعالي, وإن كان بعضها يشير إلي إمكانية أن يرزق الإنسان غيره من البشر أو يتصدق علي الحيوان, ومنها ما يشير إلي الرزق بمعني ما يطعم وما يشرب, أو بمعني المال, أو العلم, أو الجاه والسلطان, أو الأولاد والبنات والزوجات الصالحات. أو ما تنتجه الأرض من ثمار, أو ما يرزق الله من بهيمة الأنعام, أو من المطرأو من غير ذلك من الثروات الأرضية منها والسماوية, أو من الأرزاق الاخروية من مثل رزق الشهداء عند ربهم, ورزق أهل الجنة في الجنة, وفي ذلك يقول ربنا( تبارك وتعالي):
ويعيدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون*
( النحل:73)
أي ويعبدون من دون الله من هم ليسوا بسبب في رزق بوجه من الوجوه لا من السماء ولا من الأرض لأنهم لا يستطيعون ذلك أبدا.
وفي عطاء كل من الشهداء وغيرهم من أهل الجنة يقول الحق( تبارك وتعالي):
ولا تحسين الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون*
(آل عمران:169)
أي يفيض الله( تعالي) عليهم من نعمه الأخروية, وذلك من مثل قوله( تعالي):
.... ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا*( مريم:62) وتؤكد الآيات القرآنية العديدة أن( الرازق) هو الله( تعالي) لأنه خالق الرزق, ومسببه, ومعطيه, وموزعه بعلمه وحكمته, وقد يستخدم الوصف مجازا للإنسان الذي يكون سببا في وصول الرزق إلي يد غيره, أما( الرزاق) فهو من أسماء الله الحسني, ووصف لا يليق إلا بجلال الله( تعالي), ولا يجوز أن يقال لغيره( سبحانه وتعالي), وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي): إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين*
(الذاريات:58)
ويقول( عز من قائل):
.... ولله خزائن السماوات والأرض...*( المنافقون:7)
ويقول( سبحانه):
قل من يرزقكم من السماء والأرض....*
(يونس:31)
ويعتب ربنا( تبارك وتعالي) علي الذين ينعمون في رزقه ويكفرونه أو يشركون به غيره فيقول( عز من قائل):
أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون*( الطور:37)
أما عن لفظة( السماء) فقد وردت في القرآن الكريم في ثلاثمائة وعشرة مواضع, منها مائة وعشرون بالإفراد( السماء), ومائة وتسعون بالجمع( السماوات).
والسماء ترد في القرآن الكريم بمعني الغلاف الغازي للأرض بسحبه ورياحه وكسفه, كما ترد بمعني السماء الدنيا التي قد زينها ربنا( تبارك وتعالي) بزينة الكواكب والنجوم والبروج, كما ترد بمعني السماوات السبع.
كذلك جاءت الإشارة القرآنية إلي السماوات والأرض وما بينهما في عشرين موضعا من كتاب الله, ويبدو أن المقصود بذلك هو أيضا الغلاف الغازي للأرض بصفة عامة, والجزء الأسفل منه ــ بصفة خاصة ــ وذلك لقول الحق( تبارك وتعالي):
... والسحاب المسخر بين السماء والأرض.....*
(البقرة:164)
والسحاب يتحرك في نطاق المناخ الذي يحوي أغلب مادة الغلاف الغازي(75% بالكتلة), والقرآن الكريم يشير في أكثر من موقع إلي انزال الماء من السماء, وواضح الأمر أن المقصود بالسماء هنا هو السحاب أو النطاق المحتوي علي السحاب, والمعروف علميا بنطاق التغيرات الجوية, والذي يقول فيه ربنا( تبارك وتعالي):
(1) الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله اندادا وأنتم تعلمون*( البقرة:22)
(2)...... وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها, وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون*( البقرة:164)
(3) وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء..*( الأنعام:99)
(4)... وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به....*( الأنفال:11)
(5) إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء...*( يونس:24)
(6) وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي...*( هود:44)
(7)... يرسل السماء عليكم مدرارا...*
( هود:52)
والآيات القرآنية بهذا المعني أكثر من أن تحصي في هذا المقام, وكذلك الآيات التي تشير إلي السماء الدنيا وزينتها, وتلك التي تلمح إلي السماوات العلا.
آراء المفسرين
في تفسير قول الحق( تبارك وتعالي):
وفي السماء رزقكم وما توعدون*
ذكر ابن كثير( يرحمه الله) ما نصه: وفي السماء رزقكم, يعني المطر,( وما توعدون) يعني الجنة, قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد.
وذكر صاحبا الجلالين( يرحمهما الله):( وفي السماء رزقكم) أي المطر المسبب عنه النبات الذي هو رزق,( وما توعدون) من الماء والثواب والعقاب أي: مكتوب ذلك في السماء).
وذكر صاحب الظلال( يرحمه الله) ما نصه:.. وهي لفتة عجيبة, فمع أن أسباب الرزق الظاهرة قائمة في الأرض, حيث يكد فيها الإنسان ويجهد, وينتظر من ورائها الرزق والنصيب, فإن القرآن يرد بصر الإنسان ونفسه إلي السماء, إلي الغيب, إلي الله, ليتطلع هناك إلي الرزق المقسوم والحظ المرسوم, أما الأرض وما فيها من أسباب الرزق الظاهرة, فهي آيات للموقنين, آيات ترد القلب إلي الله ليتطلع إلي الرزق من فضله, وتتخلص من أثقال الأرض وأوهام الحرص, والأسباب الظاهرة للرزق, فلا يدعها تحول بينه وبين التطلع إلي المصدر الأول الذي أنشأ هذه الأسباب.
والقلب المؤمن يدرك هذه اللفتة علي حقيقتها, ويفهمها علي وضعها, ويعرف أن المقصود بها ليس هو إهمال الأرض وأسبابها, فهو مكلف بالخلافة فيها وتعميرها, إنما المقصود هو الا يعلق نفسه بها, والا يغفل عن الله في عمارتها, ليعمل في الأرض وهو يتطلع إلي السماء, وليأخذ بالأسباب, وهو يستيقن أنها ليست هي التي ترزقه, فرزقه مقدر في السماء, وما وعده الله لابد أن يكون.
بذلك ينطلق قلبه من إسار الأسباب الظاهرة في الأرض, بل يرف بأجنحة من هذه الأسباب إلي ملكوت السماوات, حين يري في الأسباب آيات تدله علي خالق الأسباب, ويعيش موصولا قلبه بالسماء, وقدماه ثابتتان علي الأرض, فهكذا يريد الله لهذا الإنسان, هكذا يريد الله لذلك المخلوق الذي جبله من الطين, ونفخ فيه من روحه فإذا هو مفضل علي كثير من العالمين.
والإيمان هو الوسيلة لتحقيق ذلك الوضع الذي يكون فيه الإنسان في أفضل حالاته, لأنه يكون حينئذ في الحالة التي أنشأه الله لها: فطرة الله التي فطر الناس عليها, قبل أن يتناولها الفساد والإنحراف.
وبعد هذه اللمسات الثلاث في الأرض والنفس والسماء, يقسم الله سبحانه بذاته العلية علي صدق هذا الحديث كله:( فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون.
وذكر مخلوف( يرحمه الله):( وفي السماء رزقكم) أي سبب رزقكم وهو المطر, والسماء: السحاب,( وما توعدون) أي وفي السماء مكتوب ما توعدون به من الثواب والعقاب, والبعث والخير والشر.
وذكر الصابوني( أمد الله في عمره): أي وفي السماء أسباب رزقكم ومعاشكم, وهو المطر الذي به حياة البلاد والعباد, وما توعدون به من الثواب والعقاب مكتوب كذلك في السماء; قال الصاوي: والآية قصد بها الامتنان والوعد والوعيد.
وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم( أثابهم الله):
وفي السماء أمر رزقكم وتقدير ما توعدون.
رزق السماء في العلوم الكونية
من منظور العلوم الكونية يمكن فهم دلالات التعبير القرآني وفي السماء رزقكم وما توعدون.
في الأطر التالية:
أولا: في إطار فهم السماء بنطاق التغيرات الجوية:
فإن رزق السماء يفهم علي أنه المطر الذي نرتوي به ونروي زروعنا منه, وهو غاز الاوكسجين الذي نتنفسه نحن وجميع الحيوانات, وثاني أكسيد الكربون الذي تتنفسه النباتات وغير ذلك من الغازات النافعة وهنا ينحصر مفهوم السماء بالنطاق الأسفل من نطق الغلاف الغازي للأرض والمعروف باسم نطاق التغيرات الجوية
(Thetroposphere),
ويمتد من سطح البحر إلي ارتفاع16 كيلو مترا فوق خط الاستواء, ويتناقص سمكه إلي نحو الكيلو مترات العشرة فوق قطبي الأرض, وإلي أقل من ذلك(7 ــ8 كيلو مترات) فوق خطوط العرض الوسطي, وعندما يتحرك الهواء من فوق خط الاستواء في اتجاه القطبين فإنه يهبط فوق هذا المنحني الوسطي, فتزداد سرعته, ويتحرك في اتجاه الشرق بسرعة فائقة تعرف باسم التيار النفاث
(TheJetstream)
وذلك بتأثير دوران الأرض حول محورها من الغرب إلي الشرق.
وتنخفض درجة الحرارة في هذا النطاق مع الأرتفاع باستمرار حتي تصل إلي ستين درجة مئوية تحت الصفر في قمته, وذلك نظرا للابتعاد عن سطح الأرض الذي يمتص47% من أشعة الشمس فترتفع درجة حرارته ويعيد إشعاع تلك الحرارة علي هيئة أشعة تحت حمراء إلي الغلاف الغازي للأرض بمجرد غياب الشمس, ومن هنا تنخفض درجة حرارة نطاق الطقس مع الأرتفاع للبعد عن مصدر الدفء بالنسبة له ألا وهو سطح الأرض.
ولولا هذا الانخفاض في درجات حرارة نطاق الطقس لفقدت الأرض مياهها بمجرد اندفاع أبخرة تلك المياه من فوهات البراكين في مرحلة دحو الأرض, ولاستحالت الحياة علي سطحها..!!
ويغطي الماء أكثر قليلا من71% من المساحة الكلية للكرة الأرضية, وتقدر كميته بنحو1,36 مليار كيلو متر مكعب( منها97,2% في المحيطات والبحار,2,15% علي هيئة جليد فوق القطبين وحولهما وفوق قمم الجبال,0,65% في المجاري المائية المختلفة من الأنهار, والجداول وغيرها, وفي كل من البحيرات العذبة وخزانات المياه تحت سطح الأرض).
وهذا الماء أخرجه ربنا( تبارك وتعالي) أصلا من داخل الأرض ولايزال يخرجه لنا عبر فوهات البراكين, علي هيئة بخار الماء الذي تكثف ولايزال يتكثف في الأجزاء العليا من نطاق التغيرات الجوية, والتي تتميز ببرودتها الشديدة, فعاد إلي الأرض, ولا يزال يعاود دورته بين الأرض والسماء ليجري أنهارا متدفقة, تفيض إلي منخفضات الأرض فتشكلها بحارا ومحيطات, وبحيرات ومستنقعات, وظلت دورة المياه بين الأرض والسماء آية من آيات الله في إبداع الخلق حفظت ماء الأرض من التعفن, ومن الضياع إلي طبقات الجو العليا, وعملت علي تفتيت الصخور, وتسوية سطح الأرض وتمهيده, وتكوين مختلف أنواع التربة, وتركيز العديد من المعادن والصخور الاقتصادية, وخزن المياه تحت السطحية, وكانت من أسس ازدهار الحياة علي الأرض بإذن الله.
فماء الأرض يتبخر منه سنويا380,000 كيلو متر مكعب, ينتج أغلبها(320,000 كيلو متر مكعب) من بخر أسطح البحار والمحيطات, والباقي(60,000 كيلو متر مكعب) من سطح اليابسة, وهذا البخار تدفعه الرياح إلي الطبقة الدنيا من الغلاف الغازي للأرض حيث يتكثف في السحب ويعود إلي الأرض مطرا طهورا, أو ثلجا, أو بردا, وبدرجة أقل علي هيئة ندي أو ضباب في الأجزاء القريبة من سطح الأرض.
وتجري مياه الأمطار علي الأرض في مختلف مجاري المياه لتصب في البحار والمحيطات, كما يترشح جزء منها خلال طبقات الأرض المنفذة ليكون المياه تحت السطحية ذات الحركات الدائبة حيث تشارك في تغذية بعض الأنهار والبحيرات والمستنقعات, وقد تخرج علي سطح الأرض علي هيئة ينابيع, أو ينتهي بها المطاف إلي البحار والمحيطات.
وماء المطر يسقط علي البحار والمحيطات بمعدل سنوي يقدر بنحو284,000 كيلو متر مكعب وعلي اليابسة بمعدل سنوي يقدر بنحو96,000 كيلو متر مكعب, والرقم الأخير يزيد بمعدل36,000 كيلو متر مكعب عن معدل البخر من اليابسة, وهو الفرق نفسه بين معدل البخر من أسطح البحار والمحيطات, ومعدل سقوط الأمطار عليها, وتتم دورة المياه حول الأرض بصورة معجزة في كمالها ودقتها, لأنه لولاها لفسد كل ماء الأرض أو تعرض للضياع وترك كوكبنا الأرضي قاحلا, أجرد بلا حياة, تحرقه حرارة الشمس بالنهار, وتجمده برودة الليل كلما غابت الشمس.
والماء ضرورة من ضرورات الحياة الأرضية, فبدونه لا يمكن لإنسان, ولا لحيوان, ولا لنبات أن يعيش, فجنين الإنسان يحتوي علي97% من وزنه ماء, وتقل هذه النسبة إلي91% في جسد الطفل الوليد, ثم إلي66% في جسد الفرد البالغ, وتختلف نسبة الماء في كل عضو من أعضاء جسد الإنسان باختلاف وظيفته, فهي في الرئتين90%, وفي الدم82%, وفي خلايا الدماغ70%; والإنسان يمكنه العيش أسابيع عديدة بدون طعام, ولكنه لا يستطيع العيش بدون ماء إلا لفترة محدودة جدا لا تتجاوز بضعة أيام.....!!
وذلك لأن الماء يعين الإنسان علي القيام بجميع العمليات الحياتية في جسمه من مثل عمليات الهضم, والتخلص من الفضلات والتنفس وتجديد الدم,ويعين الحيوان في كل ذلك, كما يعين النبات علي الاستفادة بمركبات الأرض بامتصاصها من التربة والقيام بعملية التمثيل الضوئي, والنتح والتنفس.
والماء هو المركب الوحيد المعروف لنا في الجزء المدرك من الكون, والذي يوجد في حالاته الثلاث: الصلبة, والسائلة والغازية, وللماء قدرة فائقة علي إذابة العديد من العناصر والمركبات مما جعل منه لازمة من لوازم الحياة, كما له العديد من الخصائص الفزيائية والكيميائية المميزة من مثل قطبيته( الناتجة من أن ذرة الاوكسجين فيه تحمل شحنه سالبة بينما تحمل ذرتا الايدروجين شحنة موجبة) وقدرته الفائقة علي الالتحام والتماسك والتلاصق تجعله أشد السوائل تلاصقا, وأشدها قدرة علي التوتر السطحي بعد الزئبق, وتبدو قدرة الماء الفائقة علي التوتر السطحي في ميله إلي التكور علي هيئة قطرات بدلا من الانتشار أفقيا علي السطح الذي يسكب عليه, كما تبدو في قدرة الماء الفائقة علي تسلق جدران الوعاء الذي يوضع فيه خاصة إذا كان قطر الوعاء صغيرا, وتعرف هذه الخاصية باسم الخاصية الشعرية, وبواسطتها تتحرك السوائل من مثل العصارات الغذائية وما بها من عناصر ومركبات مذابة في الماء من جذور النباتات الي فروعه وأوراقه وزهوره وثماره, وإلي قمته النامية, كما تتحرك الدماء والعصارات الغذائية المختلفة والفضلات في كل من الجهاز الهضمي والأوعية الدموية الدقيقة في أجساد كل من الإنسان والحيوان.
وخواص الماء الحرارية خواص متميزة, فالحرارة النوعية للماء تقدر بعشرة أضعاف الحرارة النوعية للحديد, وبخمسة أضعاف الحرارة النوعية لرمال الشواطئ, وكذلك فإن معامل الحرارة الكامنة لكل من تبخر الماء السائل وانصهار الجليد الصلب مرتفعين ارتفاعا ملحوظا مما يعطي للماء مجالا واسعا في جميع العمليات الحياتية.
وللماء منحني كثافة فريد ــ لا يشاركه فيه أي من السوائل الأخري ــ فعندما تصل درجة حرارة الماء إلي أربع درجات مئوية يصل إلي أقل حجم له وأعلي كثافة, ولكن اذا انخفضت درجة الحرارة دون ذلك فإن حجم الماء يتمدد وتقل كثافته, وهذا يفسر طفو الجليد علي سطح الماء في البحار والمحيطات, وعدم تجمد الماء أسفل منه مما يتيح فرصة عدم التجمد للكائنات البحرية العديدة التي تعيش في أعماق البحار, فالماء هذا السائل العجيب هو من أعظم صور رزق السماء لأن بدونه لا يمكن للحياة الأرضية أن تكون...!!
وكذلك الهواء بما فيه من اوكسجين وثاني أكسيد الكربون وبخار الماء, وغير ذلك من الغازات المهمة وهباءات الغبار وكلها من ضرورات جعل الحياة علي الأرض ممكنة وممتعة.
ثانيا: في إطار تفسير السماء بالسماء الدنيا:
فإن رزق السماء هو كل صور المادة والطاقة المتولدة في داخل النجوم, من مثل شمسنا والتي تصل إلي الأرض بصور متعددة:
فمن الثابت علميا أن النجوم قد تكونت ابتداء من الدخان الكوني الذي نشأ عن انفجار الجرم الابتدائي للكون, مما يؤكد علي وحدة البناء في الكون, وأنها لا تزال تتكون أمام انظار الفلكيين اليوم من دخان السدم, وفي داخل تلك الغيوم الكونية عبر مراحل من النجوم الابتدائية
(Prosrars)
وذلك بواسطة عدد من الدوامات العاتية التي تعرف باسم دوامات تركيز المادة, والتي تقوم بتكديس المادة وتكثيفها حتي تتجمع الظروف اللازمة لبدء عملية الاندماج النووي, وانطلاق الطاقة, وانبثاق الضوء فيتحول النجم الابتدائي إلي نجم عادي كشمسنا يعرف باسم( نجم التسلسل الرئيسي) وأغلب النجوم التي تتراءي لنا في صفحة السماء هي من هذا النوع لأن النجم يقضي90% من عمره في هذه المرحلة التي يعتبر فيها النجم فرنا كونيا تتخلق فيه العناصر من نوي ذرات الإيدروجين بعملية الاندماج النووي, وتتميز فترة( نجم النسق الرئيسي) بتعادل قوة الجذب إلي مركز النجم مع قوة دفع مكونات النجم إلي الخارج لتمدده بالحرارة الناتجة عن عملية الاندماج النووي, وبالعزم الزاوي الناتج عن دوراته حول محوره, ويبقي النجم في هذا الطور حتي ينفد وقوده من غازي الايدروجين والهليوم, ف
يبدأ بالدخول في مراحل الشيخوخة بالانكدار ثم الخنوس والطمس حتي تنتهي حياة النجم بالانفجار وعودة مادته الي دخان السماء إما مباشرة عن طريق إنفجار العماليق الحمر أو العماليق العظام أو المستعرات العظيمة بمختلف نماذجها, أو بطرق غير مباشرة عبر مرحلة من مراحل وفاة النجوم الفائقة الكتل من مثل النجوم النيوترونية والنجوم الخانسة الكانسة( أو ما يعرف باسم الثقوب السود), والتي يعتقد العلماء بأنها تفقد مادتها بالتدريج إلي دخان السماء عبر مرحلة أشباه النجوم.
وباتحاد نوي ذرات الإيدروجين في قلب النجم العادي تتكون نوي ذرات الهليوم, وباتحاد نوي ذرات العنصر الأخير تتكون نوي ذرات البريليوم, وهكذا يتسلسل تخلق العناصر المختلفة في داخل النجوم خاصة النجوم العملاقة أو في أثناء انفجارها, ويؤدي انفجار النجوم إلي عودة ما تكون بداخلها من عناصر إلي دخان السماء لكي يكون مادة لتخلق نجم جديد أو ليصل إلي بعض أجرام السماء في صورة من صور رزق السماء.
ومن المشاهد أن عملية الاندماج النووي في داخل النجوم فائقة الكتلة من مثل العماليق والمستعرات العظام تستمر حتي يتحول قلب النجم بالكامل إلي حديد, فتستهلك طاقة النجم لأن ذرة الحديد هي أكثر الذرات تماسكا, وفي انفجار المستعرات العظام تصطدم نيوترونات دخان السماء بنوي الحديد المتطايرة من عملية الانفجار لتبني نوي ذرات أعلي كثافة مثل الفضة, والذهب, واليورانيوم, وغيرها, كما أن إهاب النجم المتفجر من المواد الاقل كثافة ينتقل أيضا إلي دخان السماء بأنفجار واشتعال شديدين وانبعاث موجات راديوية قوية.
وتتكون المادة فيما بين النجوم من الغازات والغبار( أي الدخان) المكون من جزيئات وذرات وأيونات, ومن اللبنات الأساسية للمادة ويغلب علي تركيبه الايدروجين, والهليوم, والاوكسجين, والنيتروجين, والكربون, والنيون والصوديوم والبوتاسيوم وبعض العناصر الاثقل, وتقدر المادة بين نجوم مجرتنا ببضعة بلايين المرات قدر كتلة الشمس, وتصل كافة العناصر المتخلقة في الكون إلي الأرض عن طريق تساقط الشهب والنيازك, ويصل إلي الأرص يوميا بين الألف والعشرة آلاف طن من مادة الشهب والنيازك لتجدد إثراء الأرض بالعناصر المختلفة التي تمثل صورة من صور رزق السماء الذي يوزع علي الأرض بتقدير من العزيز الحكيم, ولم يكن لأحد ادراك بها من قبل.
ومنذ فترة وجيزة أثبت العلماء أن نجما من نجوم السماء قد تحول إلي كتلة من الألماس تفوق كتلة الأرض عدة مرات, ومن قبيل الفكاهة يذكرون أن هذه الكتلة إذا انفجرت ونزلت إلي الأرض فإن تجارة الألماس سوف تكسد بالقطع.
ويقدر ناتج الطاقة الكلية للشمس بنحو3,86*3310 سعر/ ثانية ويعتبر فيض الطاقة الشمسية الواصلة إلي الأرض أكبر من الطاقة التي تستقبلها الأرض من ألمع النجوم بعشرة مليارات ضعف, وأكبر من الطاقة التي تستقبلها الأرض من القمر وهو في طور البدر مليون مرة.
وطاقة الشمس من رزق السماء, فبدونها تستحيل الحياة علي الأرض....!!
ثالثا: في إطار تفسير السماء بالسماوات العلا
فإن رزق السماء يتمثل في قرار الرزاق ذي القوة المتين, فقد ثبت أن كوننا قد نتج عن عملية انفجار عظيم, وأنه من طبيعة الانفجار أنه يؤدي إلي تناثر المادة وبعثرتها, ولكن انفجارا يؤدي إلي بناء كون بهذه الضخامة في الابعاد, وفي تعدد الاجرام وفي احكام الاحجام, والكتل والمدارات, والحركات والعلاقات المتبادلة من مثل التجاذب, وتبادل المادة فيما بينها هو انفجار لابد, وأن يكون قد تم بتقدير عظيم, من خالق عظيم له من صفات الكمال والجمال والجلال ما مكنه من إبداع هذا الخلق بعلمه وحكمته وقدرته, وهذا الخالق العظيم لابد, وأن يكون مغايرا لكل خلقه فلا يحده المكان, ولا الزمان, ولا تشكله المادة ولا الطاقة, لأنه( تعالي) خالق كل ذلك ومبدعه, هذا الخالق العظيم فوق كل خلقه: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير*( الشوري:11)
يدبر أمر هذا الكون في كل صغيرة وكبيرة, ومن ذلك توزيع الأرزاق علي العباد, فمن الأسماء الحسني لهذا الخالق العظيم البارئ المصور نجد اسم( الوهاب) أي صاحب الهبات والعطايا الخالية عن الأعواض والأغراض, كما نجد أسم( الرزاق) أي خالق الأرزاق والمرزوقين, وموصل الأرزاق اليهم وخالق الأسباب التي تمكنهم من التمتع بها.
وباقي أسمائه الحسني( سبحانه وتعالي) تحمل شيئا من تلك المعاني والصفات الربانية ومنها:اسم( الفتاح) وهو الذي بيده مفاتيح الغيب والرزق, ومفاتيح كل منغلق ومشكل, واسما( القابض) و(الباسط) ومن معانيهما فيض الرزق حتي لا يبقي طاقة, وبسطه حتي لا يبقي فاقه, كما يقبض القلوب والأرواح ويبسطهما كيف يشاء, واسما( المعز)( المذل) الذي يؤتي الملك من يشاء, وينزعه ممن يشاء, والملك من الرزق, والملك الحقيقي يكمن في الخلاص من ذل الحاجة, وقهر الشهوة, وعبء الجهل, واسم( المقيت) ومن معانيه خالق الأقوات وواهبها. و(الكريم) ومن معانيه المعطاء زيادة علي منتهي الرجاء, و(المجيب) ومن معانيه مقابلة مسألة السائلين بالاجابة و(الواسع) ومن معانيه ذو السعة المطلقة من العلم والخير والاحسان وبسط النعم, و(الودود) ومن معانيه الانعام علي سبيل الابتداء بمحبة ورأفة, و(البر) وهو المحسن المتفضل بكل بر وإحسان, و(مالك الملك) أي صاحب المشيئة النافذة, والإرادة الغالبة.
وخلاصة ذلك أن قرار توزيع الأرزاق علي العباد يصدره ربنا( تبارك وتعالي) في علاه فتنزل به الملائكة إلي الأرض تصديقا لقول المصطفي( صلي الله عليه وسلم): إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة, ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضغة مثل ذلك, ثم يرسل إليه الملك, فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه, وأجله, وعمله, وشقي أو سعيد....
وصدق الله العظيم الذي أنزل من فوق سبع سماوات ومن قبل أربعة عشر قرنا قوله الحق:
{وفي السماء رزقكم وما توعدون}
ثم يكرر ربنا( سبحانه وتعالي) القسم بالسماء ذات الحبك علي أن الناس مختلفون في أمر يوم الدين بين مكذب ومصدق, وتستعرض الآيات حال كل من المجموعتين في هذا اليوم العصيب, ثم تعود إلي الاستدلال بآيات الله في كل من الأرض والأنفس والآفاق ومنها قول الحق( تبارك وتعالي):
وفي السماء رزقكم وما توعدون
ثم يأتي القسم الحاسم الجازم برب السماء والأرض ان هذا كله حق, كما ينطق المنكرون في هذه الحياة الدنيا, وهم يدركون حقيقة ما ينطقون, فلا يجوز لهم أن يشكوا فيه أو أن ينكروه كما لا يشكون في نطقهم الذي ينطقون...!!
وبعد ذلك تتحرك بنا السورة إلي عرض شيء من الوقائع التاريخية من قبيل ضرب المثل, واستخلاص العبر, والدعوة إلي إخلاص العبادة لله وحده( بغير شريك ولا شبيه ولامنازع), وذلك من مثل قصص سيدنا إبراهيم( عليه السلام) مع ضيفه وقومه, وسيدنا لوط( عليه السلام) وما حاق بقومه من عذاب, وسيدنا موسي( عليه السلام) وفرعونه الذي أغرقه الله( تعالي) وجنده في اليم, وقوم عاد وطمرهم بالرمال السافية, وقوم ثمود الذن دمروا بالصاعقة, وقوم نوح( عليه السلام) الذين أغرقوا بالطوفان لفسقهم...!!
وتعاود السورة الكريمة القسم بالسماء وتوسيع الله المستمر لها, وبالأرض وفرشها وتمهيدها, وخلق كل شيء من زوجين تأكيدا لوحدانية الله( تعالي) المطلقة فوق جميع خلقه..!!!
ثم تعرج بنا السورة إلي حقيقة أن كل رسول جاء بالحق من رب العالمين قد اتهمه الكفار من قومه بالسحر أو بالجنون ظلما وطغيانا من عند أنفسهم, وفي ذلك مواساة من رب العباد الذي يطالب خاتم أنبيائه ورسله بالاستمرار في التذكير بالله, والدعوة إلي دينه الحق علي الرغم من كل ذلك, لعل الذكري تنفع المؤمنين.
والهدف من هذا الاستعراض المكثف لآيات الله في الكون, والاستعراض الخاطف لقصص عدد من الأمم البائدة هو وصل العباد بخالقهم, وربط قلوبهم بعوالم الغيب, كما يصفها خالق الكون ومبدع الوجود لا كما تتصورها أوهام الغافلين الضالين من الكفار والمشركين.
والذي يرتبط قلبه بخالقه, ويؤمن بالغيب, كما أنزله في محكم كتابه, وسنة نبيه, تخطي الدنيا الي الاخرة, دون أن يهمل واجباته في الحياة, ودون أن تشغله التكاليف المادية لهذه الحياة عن إخلاص العبادة لله, وفي مقدمة تلك التكاليف الجري علي المعايش لكسب الرزق الحلال, والذي قد يتخيل البعض أنه يمكن أن يشغل الإنسان عن رسالته الحقيقية في هذه الحياة والتي تتلخص في:
عبادة الله( تعالي) بما امر, وحسن القيام بواجب الاستخلاف في الأرض, وهما وجهان لعملة واحدة تمثل رسالة كل من الجن والإنس في هذه الحياة, والتي لخصها ربنا( تبارك وتعالي) في السورة نفسها بقوله( عز من قائل): وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون* ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون* إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين*.
(الذاريات:56 ــ58).
هذا وقد تباينت آراء المفسرين في قول الحق( تبارك وتعالي)
وفي السماء رزقكم وما توعدون*.
بين قائل بالمطر, وقائل بالقرار الإلهي في تقسيم الرزق وتوزيعه بين العباد, وقائل بالثواب والعقاب أو بالجنة والنار, أو بها جميعا ولكن الدراسات الكونية الحديثة قد اضافت بعدا جديدا, فأكدت أن جميع ما يحتاجه الإنسان والحيوان والنبات من الماء, ومن مختلف صور المادة والطاقة إنما ينزل إلي الأرض من السماء بتقدير من الرزاق الحكيم العليم الذي ينزله بقدر معلوم لقوله( عز من قائل):
ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن: ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير*( الشوري:27)
ولقوله( سبحانه)!
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم*.( الحجر:21)
رزق السماء في اللغة العربية
(الرزق) في اللغة العربية هو ما ينتفع به من النعم, والجمع( أرزاق), و(الرزق) أيضا هو العطاء الجاري دنيويا كان أم أخرويا, وهو كذلك النصيب المقسوم للإنسان فيصل إلي يده سواء كان مما يصل إلي الجوف ويتغذي به,أو يكتسي ويتزين به, أو يتجمل به من مثل الخلق الحسن والعلم النافع يقال:( رزقه) الله( يرزقه)( رزقا) بكسر الراء,( والمصدر الحقيقي فتح الراء), والإسم يوضع موضع المصدر, و(ارتزق) بمعني أخذ( رزقه), و(الرزقة) ما يعطي دفعة واحدة, وقد تأتي لفظة( الرزق) بمعني( شكر الرزق) من مثل قوله( تعالي):
وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون( الواقعة:82) أي تجعلون نصيبكم من النعمة أو شكركم عليها أنكم تكذبون رسالات ربكم.
ويقال رجل( مرزوق) أي مجدود( محظوظ), وقد يعتبر كل من المال والولد والجاه والعلم من( الرزق), كما قد يسمي المطر( رزقا), ويمكن أن يحمل( الرزق) علي العموم فيما يؤكل ويلبس ويستعمل, وكل ما يخرج من الأرض أو ينزل من السماء, و(الرازق) هو الله تعالي خالق( الرزق) ومعطيه, ومسببه, وموزعه بالقسط, وإن كانت هذه الصفة يمكن أن تستخدم للبشر, أما( الرزاق) فهو اسم من أسماء الله الحسني وصفة من صفاته العليا لا يوصف بها غيره( سبحانه وتعالي).
وعن( السماء) فهي اسم مشتق من( السمو) بمعني الارتفاع والعلو, تقول:( سما),( يسمو)( سموا) فهو( سام) بمعني علا, يعلو علوا, فهو عال, أي مرتفع, وذلك لأن السين والميم والواو أصل يدل علي الارتفاع والعلو, يقال:( سموت) و(سميت) بمعني علوت وعليت للتنويه بالرفعة والعلو, وعلي ذلك فإن سماء كل شيء أعلاه, ولذلك قيل لسقف البيت سماء لارتفاعه, وقيل للسحاب سماء لعلوه, واستعير اللفظ للمطر بسبب نزوله من السماء, وللعشب لارتباط منبته بنزول ماء السماء, ومن هنا قيل:( كل ما علاك فأظلك فهو سماء).
ولفظة( السماء) في العربية تذكر وتؤنث( وإن كان تذكيرها يعتبر شاذا), وجمعها( سماوات), وهناك صيغ أخري لجمعها ولكنها غريبة.
رزق السماء في القرآن الكريم
ورد الفعل( رزق) بمشتقاته في كتاب الله مائة وثلاثا وعشرين(123) مرة, تنسب الرزق إلي الله تعالي, وإن كان بعضها يشير إلي إمكانية أن يرزق الإنسان غيره من البشر أو يتصدق علي الحيوان, ومنها ما يشير إلي الرزق بمعني ما يطعم وما يشرب, أو بمعني المال, أو العلم, أو الجاه والسلطان, أو الأولاد والبنات والزوجات الصالحات. أو ما تنتجه الأرض من ثمار, أو ما يرزق الله من بهيمة الأنعام, أو من المطرأو من غير ذلك من الثروات الأرضية منها والسماوية, أو من الأرزاق الاخروية من مثل رزق الشهداء عند ربهم, ورزق أهل الجنة في الجنة, وفي ذلك يقول ربنا( تبارك وتعالي):
ويعيدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون*
( النحل:73)
أي ويعبدون من دون الله من هم ليسوا بسبب في رزق بوجه من الوجوه لا من السماء ولا من الأرض لأنهم لا يستطيعون ذلك أبدا.
وفي عطاء كل من الشهداء وغيرهم من أهل الجنة يقول الحق( تبارك وتعالي):
ولا تحسين الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون*
(آل عمران:169)
أي يفيض الله( تعالي) عليهم من نعمه الأخروية, وذلك من مثل قوله( تعالي):
.... ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا*( مريم:62) وتؤكد الآيات القرآنية العديدة أن( الرازق) هو الله( تعالي) لأنه خالق الرزق, ومسببه, ومعطيه, وموزعه بعلمه وحكمته, وقد يستخدم الوصف مجازا للإنسان الذي يكون سببا في وصول الرزق إلي يد غيره, أما( الرزاق) فهو من أسماء الله الحسني, ووصف لا يليق إلا بجلال الله( تعالي), ولا يجوز أن يقال لغيره( سبحانه وتعالي), وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي): إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين*
(الذاريات:58)
ويقول( عز من قائل):
.... ولله خزائن السماوات والأرض...*( المنافقون:7)
ويقول( سبحانه):
قل من يرزقكم من السماء والأرض....*
(يونس:31)
ويعتب ربنا( تبارك وتعالي) علي الذين ينعمون في رزقه ويكفرونه أو يشركون به غيره فيقول( عز من قائل):
أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون*( الطور:37)
أما عن لفظة( السماء) فقد وردت في القرآن الكريم في ثلاثمائة وعشرة مواضع, منها مائة وعشرون بالإفراد( السماء), ومائة وتسعون بالجمع( السماوات).
والسماء ترد في القرآن الكريم بمعني الغلاف الغازي للأرض بسحبه ورياحه وكسفه, كما ترد بمعني السماء الدنيا التي قد زينها ربنا( تبارك وتعالي) بزينة الكواكب والنجوم والبروج, كما ترد بمعني السماوات السبع.
كذلك جاءت الإشارة القرآنية إلي السماوات والأرض وما بينهما في عشرين موضعا من كتاب الله, ويبدو أن المقصود بذلك هو أيضا الغلاف الغازي للأرض بصفة عامة, والجزء الأسفل منه ــ بصفة خاصة ــ وذلك لقول الحق( تبارك وتعالي):
... والسحاب المسخر بين السماء والأرض.....*
(البقرة:164)
والسحاب يتحرك في نطاق المناخ الذي يحوي أغلب مادة الغلاف الغازي(75% بالكتلة), والقرآن الكريم يشير في أكثر من موقع إلي انزال الماء من السماء, وواضح الأمر أن المقصود بالسماء هنا هو السحاب أو النطاق المحتوي علي السحاب, والمعروف علميا بنطاق التغيرات الجوية, والذي يقول فيه ربنا( تبارك وتعالي):
(1) الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله اندادا وأنتم تعلمون*( البقرة:22)
(2)...... وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها, وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون*( البقرة:164)
(3) وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء..*( الأنعام:99)
(4)... وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به....*( الأنفال:11)
(5) إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء...*( يونس:24)
(6) وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي...*( هود:44)
(7)... يرسل السماء عليكم مدرارا...*
( هود:52)
والآيات القرآنية بهذا المعني أكثر من أن تحصي في هذا المقام, وكذلك الآيات التي تشير إلي السماء الدنيا وزينتها, وتلك التي تلمح إلي السماوات العلا.
آراء المفسرين
في تفسير قول الحق( تبارك وتعالي):
وفي السماء رزقكم وما توعدون*
ذكر ابن كثير( يرحمه الله) ما نصه: وفي السماء رزقكم, يعني المطر,( وما توعدون) يعني الجنة, قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد.
وذكر صاحبا الجلالين( يرحمهما الله):( وفي السماء رزقكم) أي المطر المسبب عنه النبات الذي هو رزق,( وما توعدون) من الماء والثواب والعقاب أي: مكتوب ذلك في السماء).
وذكر صاحب الظلال( يرحمه الله) ما نصه:.. وهي لفتة عجيبة, فمع أن أسباب الرزق الظاهرة قائمة في الأرض, حيث يكد فيها الإنسان ويجهد, وينتظر من ورائها الرزق والنصيب, فإن القرآن يرد بصر الإنسان ونفسه إلي السماء, إلي الغيب, إلي الله, ليتطلع هناك إلي الرزق المقسوم والحظ المرسوم, أما الأرض وما فيها من أسباب الرزق الظاهرة, فهي آيات للموقنين, آيات ترد القلب إلي الله ليتطلع إلي الرزق من فضله, وتتخلص من أثقال الأرض وأوهام الحرص, والأسباب الظاهرة للرزق, فلا يدعها تحول بينه وبين التطلع إلي المصدر الأول الذي أنشأ هذه الأسباب.
والقلب المؤمن يدرك هذه اللفتة علي حقيقتها, ويفهمها علي وضعها, ويعرف أن المقصود بها ليس هو إهمال الأرض وأسبابها, فهو مكلف بالخلافة فيها وتعميرها, إنما المقصود هو الا يعلق نفسه بها, والا يغفل عن الله في عمارتها, ليعمل في الأرض وهو يتطلع إلي السماء, وليأخذ بالأسباب, وهو يستيقن أنها ليست هي التي ترزقه, فرزقه مقدر في السماء, وما وعده الله لابد أن يكون.
بذلك ينطلق قلبه من إسار الأسباب الظاهرة في الأرض, بل يرف بأجنحة من هذه الأسباب إلي ملكوت السماوات, حين يري في الأسباب آيات تدله علي خالق الأسباب, ويعيش موصولا قلبه بالسماء, وقدماه ثابتتان علي الأرض, فهكذا يريد الله لهذا الإنسان, هكذا يريد الله لذلك المخلوق الذي جبله من الطين, ونفخ فيه من روحه فإذا هو مفضل علي كثير من العالمين.
والإيمان هو الوسيلة لتحقيق ذلك الوضع الذي يكون فيه الإنسان في أفضل حالاته, لأنه يكون حينئذ في الحالة التي أنشأه الله لها: فطرة الله التي فطر الناس عليها, قبل أن يتناولها الفساد والإنحراف.
وبعد هذه اللمسات الثلاث في الأرض والنفس والسماء, يقسم الله سبحانه بذاته العلية علي صدق هذا الحديث كله:( فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون.
وذكر مخلوف( يرحمه الله):( وفي السماء رزقكم) أي سبب رزقكم وهو المطر, والسماء: السحاب,( وما توعدون) أي وفي السماء مكتوب ما توعدون به من الثواب والعقاب, والبعث والخير والشر.
وذكر الصابوني( أمد الله في عمره): أي وفي السماء أسباب رزقكم ومعاشكم, وهو المطر الذي به حياة البلاد والعباد, وما توعدون به من الثواب والعقاب مكتوب كذلك في السماء; قال الصاوي: والآية قصد بها الامتنان والوعد والوعيد.
وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم( أثابهم الله):
وفي السماء أمر رزقكم وتقدير ما توعدون.
رزق السماء في العلوم الكونية
من منظور العلوم الكونية يمكن فهم دلالات التعبير القرآني وفي السماء رزقكم وما توعدون.
في الأطر التالية:
أولا: في إطار فهم السماء بنطاق التغيرات الجوية:
فإن رزق السماء يفهم علي أنه المطر الذي نرتوي به ونروي زروعنا منه, وهو غاز الاوكسجين الذي نتنفسه نحن وجميع الحيوانات, وثاني أكسيد الكربون الذي تتنفسه النباتات وغير ذلك من الغازات النافعة وهنا ينحصر مفهوم السماء بالنطاق الأسفل من نطق الغلاف الغازي للأرض والمعروف باسم نطاق التغيرات الجوية
(Thetroposphere),
ويمتد من سطح البحر إلي ارتفاع16 كيلو مترا فوق خط الاستواء, ويتناقص سمكه إلي نحو الكيلو مترات العشرة فوق قطبي الأرض, وإلي أقل من ذلك(7 ــ8 كيلو مترات) فوق خطوط العرض الوسطي, وعندما يتحرك الهواء من فوق خط الاستواء في اتجاه القطبين فإنه يهبط فوق هذا المنحني الوسطي, فتزداد سرعته, ويتحرك في اتجاه الشرق بسرعة فائقة تعرف باسم التيار النفاث
(TheJetstream)
وذلك بتأثير دوران الأرض حول محورها من الغرب إلي الشرق.
وتنخفض درجة الحرارة في هذا النطاق مع الأرتفاع باستمرار حتي تصل إلي ستين درجة مئوية تحت الصفر في قمته, وذلك نظرا للابتعاد عن سطح الأرض الذي يمتص47% من أشعة الشمس فترتفع درجة حرارته ويعيد إشعاع تلك الحرارة علي هيئة أشعة تحت حمراء إلي الغلاف الغازي للأرض بمجرد غياب الشمس, ومن هنا تنخفض درجة حرارة نطاق الطقس مع الأرتفاع للبعد عن مصدر الدفء بالنسبة له ألا وهو سطح الأرض.
ولولا هذا الانخفاض في درجات حرارة نطاق الطقس لفقدت الأرض مياهها بمجرد اندفاع أبخرة تلك المياه من فوهات البراكين في مرحلة دحو الأرض, ولاستحالت الحياة علي سطحها..!!
ويغطي الماء أكثر قليلا من71% من المساحة الكلية للكرة الأرضية, وتقدر كميته بنحو1,36 مليار كيلو متر مكعب( منها97,2% في المحيطات والبحار,2,15% علي هيئة جليد فوق القطبين وحولهما وفوق قمم الجبال,0,65% في المجاري المائية المختلفة من الأنهار, والجداول وغيرها, وفي كل من البحيرات العذبة وخزانات المياه تحت سطح الأرض).
وهذا الماء أخرجه ربنا( تبارك وتعالي) أصلا من داخل الأرض ولايزال يخرجه لنا عبر فوهات البراكين, علي هيئة بخار الماء الذي تكثف ولايزال يتكثف في الأجزاء العليا من نطاق التغيرات الجوية, والتي تتميز ببرودتها الشديدة, فعاد إلي الأرض, ولا يزال يعاود دورته بين الأرض والسماء ليجري أنهارا متدفقة, تفيض إلي منخفضات الأرض فتشكلها بحارا ومحيطات, وبحيرات ومستنقعات, وظلت دورة المياه بين الأرض والسماء آية من آيات الله في إبداع الخلق حفظت ماء الأرض من التعفن, ومن الضياع إلي طبقات الجو العليا, وعملت علي تفتيت الصخور, وتسوية سطح الأرض وتمهيده, وتكوين مختلف أنواع التربة, وتركيز العديد من المعادن والصخور الاقتصادية, وخزن المياه تحت السطحية, وكانت من أسس ازدهار الحياة علي الأرض بإذن الله.
فماء الأرض يتبخر منه سنويا380,000 كيلو متر مكعب, ينتج أغلبها(320,000 كيلو متر مكعب) من بخر أسطح البحار والمحيطات, والباقي(60,000 كيلو متر مكعب) من سطح اليابسة, وهذا البخار تدفعه الرياح إلي الطبقة الدنيا من الغلاف الغازي للأرض حيث يتكثف في السحب ويعود إلي الأرض مطرا طهورا, أو ثلجا, أو بردا, وبدرجة أقل علي هيئة ندي أو ضباب في الأجزاء القريبة من سطح الأرض.
وتجري مياه الأمطار علي الأرض في مختلف مجاري المياه لتصب في البحار والمحيطات, كما يترشح جزء منها خلال طبقات الأرض المنفذة ليكون المياه تحت السطحية ذات الحركات الدائبة حيث تشارك في تغذية بعض الأنهار والبحيرات والمستنقعات, وقد تخرج علي سطح الأرض علي هيئة ينابيع, أو ينتهي بها المطاف إلي البحار والمحيطات.
وماء المطر يسقط علي البحار والمحيطات بمعدل سنوي يقدر بنحو284,000 كيلو متر مكعب وعلي اليابسة بمعدل سنوي يقدر بنحو96,000 كيلو متر مكعب, والرقم الأخير يزيد بمعدل36,000 كيلو متر مكعب عن معدل البخر من اليابسة, وهو الفرق نفسه بين معدل البخر من أسطح البحار والمحيطات, ومعدل سقوط الأمطار عليها, وتتم دورة المياه حول الأرض بصورة معجزة في كمالها ودقتها, لأنه لولاها لفسد كل ماء الأرض أو تعرض للضياع وترك كوكبنا الأرضي قاحلا, أجرد بلا حياة, تحرقه حرارة الشمس بالنهار, وتجمده برودة الليل كلما غابت الشمس.
والماء ضرورة من ضرورات الحياة الأرضية, فبدونه لا يمكن لإنسان, ولا لحيوان, ولا لنبات أن يعيش, فجنين الإنسان يحتوي علي97% من وزنه ماء, وتقل هذه النسبة إلي91% في جسد الطفل الوليد, ثم إلي66% في جسد الفرد البالغ, وتختلف نسبة الماء في كل عضو من أعضاء جسد الإنسان باختلاف وظيفته, فهي في الرئتين90%, وفي الدم82%, وفي خلايا الدماغ70%; والإنسان يمكنه العيش أسابيع عديدة بدون طعام, ولكنه لا يستطيع العيش بدون ماء إلا لفترة محدودة جدا لا تتجاوز بضعة أيام.....!!
وذلك لأن الماء يعين الإنسان علي القيام بجميع العمليات الحياتية في جسمه من مثل عمليات الهضم, والتخلص من الفضلات والتنفس وتجديد الدم,ويعين الحيوان في كل ذلك, كما يعين النبات علي الاستفادة بمركبات الأرض بامتصاصها من التربة والقيام بعملية التمثيل الضوئي, والنتح والتنفس.
والماء هو المركب الوحيد المعروف لنا في الجزء المدرك من الكون, والذي يوجد في حالاته الثلاث: الصلبة, والسائلة والغازية, وللماء قدرة فائقة علي إذابة العديد من العناصر والمركبات مما جعل منه لازمة من لوازم الحياة, كما له العديد من الخصائص الفزيائية والكيميائية المميزة من مثل قطبيته( الناتجة من أن ذرة الاوكسجين فيه تحمل شحنه سالبة بينما تحمل ذرتا الايدروجين شحنة موجبة) وقدرته الفائقة علي الالتحام والتماسك والتلاصق تجعله أشد السوائل تلاصقا, وأشدها قدرة علي التوتر السطحي بعد الزئبق, وتبدو قدرة الماء الفائقة علي التوتر السطحي في ميله إلي التكور علي هيئة قطرات بدلا من الانتشار أفقيا علي السطح الذي يسكب عليه, كما تبدو في قدرة الماء الفائقة علي تسلق جدران الوعاء الذي يوضع فيه خاصة إذا كان قطر الوعاء صغيرا, وتعرف هذه الخاصية باسم الخاصية الشعرية, وبواسطتها تتحرك السوائل من مثل العصارات الغذائية وما بها من عناصر ومركبات مذابة في الماء من جذور النباتات الي فروعه وأوراقه وزهوره وثماره, وإلي قمته النامية, كما تتحرك الدماء والعصارات الغذائية المختلفة والفضلات في كل من الجهاز الهضمي والأوعية الدموية الدقيقة في أجساد كل من الإنسان والحيوان.
وخواص الماء الحرارية خواص متميزة, فالحرارة النوعية للماء تقدر بعشرة أضعاف الحرارة النوعية للحديد, وبخمسة أضعاف الحرارة النوعية لرمال الشواطئ, وكذلك فإن معامل الحرارة الكامنة لكل من تبخر الماء السائل وانصهار الجليد الصلب مرتفعين ارتفاعا ملحوظا مما يعطي للماء مجالا واسعا في جميع العمليات الحياتية.
وللماء منحني كثافة فريد ــ لا يشاركه فيه أي من السوائل الأخري ــ فعندما تصل درجة حرارة الماء إلي أربع درجات مئوية يصل إلي أقل حجم له وأعلي كثافة, ولكن اذا انخفضت درجة الحرارة دون ذلك فإن حجم الماء يتمدد وتقل كثافته, وهذا يفسر طفو الجليد علي سطح الماء في البحار والمحيطات, وعدم تجمد الماء أسفل منه مما يتيح فرصة عدم التجمد للكائنات البحرية العديدة التي تعيش في أعماق البحار, فالماء هذا السائل العجيب هو من أعظم صور رزق السماء لأن بدونه لا يمكن للحياة الأرضية أن تكون...!!
وكذلك الهواء بما فيه من اوكسجين وثاني أكسيد الكربون وبخار الماء, وغير ذلك من الغازات المهمة وهباءات الغبار وكلها من ضرورات جعل الحياة علي الأرض ممكنة وممتعة.
ثانيا: في إطار تفسير السماء بالسماء الدنيا:
فإن رزق السماء هو كل صور المادة والطاقة المتولدة في داخل النجوم, من مثل شمسنا والتي تصل إلي الأرض بصور متعددة:
فمن الثابت علميا أن النجوم قد تكونت ابتداء من الدخان الكوني الذي نشأ عن انفجار الجرم الابتدائي للكون, مما يؤكد علي وحدة البناء في الكون, وأنها لا تزال تتكون أمام انظار الفلكيين اليوم من دخان السدم, وفي داخل تلك الغيوم الكونية عبر مراحل من النجوم الابتدائية
(Prosrars)
وذلك بواسطة عدد من الدوامات العاتية التي تعرف باسم دوامات تركيز المادة, والتي تقوم بتكديس المادة وتكثيفها حتي تتجمع الظروف اللازمة لبدء عملية الاندماج النووي, وانطلاق الطاقة, وانبثاق الضوء فيتحول النجم الابتدائي إلي نجم عادي كشمسنا يعرف باسم( نجم التسلسل الرئيسي) وأغلب النجوم التي تتراءي لنا في صفحة السماء هي من هذا النوع لأن النجم يقضي90% من عمره في هذه المرحلة التي يعتبر فيها النجم فرنا كونيا تتخلق فيه العناصر من نوي ذرات الإيدروجين بعملية الاندماج النووي, وتتميز فترة( نجم النسق الرئيسي) بتعادل قوة الجذب إلي مركز النجم مع قوة دفع مكونات النجم إلي الخارج لتمدده بالحرارة الناتجة عن عملية الاندماج النووي, وبالعزم الزاوي الناتج عن دوراته حول محوره, ويبقي النجم في هذا الطور حتي ينفد وقوده من غازي الايدروجين والهليوم, ف
يبدأ بالدخول في مراحل الشيخوخة بالانكدار ثم الخنوس والطمس حتي تنتهي حياة النجم بالانفجار وعودة مادته الي دخان السماء إما مباشرة عن طريق إنفجار العماليق الحمر أو العماليق العظام أو المستعرات العظيمة بمختلف نماذجها, أو بطرق غير مباشرة عبر مرحلة من مراحل وفاة النجوم الفائقة الكتل من مثل النجوم النيوترونية والنجوم الخانسة الكانسة( أو ما يعرف باسم الثقوب السود), والتي يعتقد العلماء بأنها تفقد مادتها بالتدريج إلي دخان السماء عبر مرحلة أشباه النجوم.
وباتحاد نوي ذرات الإيدروجين في قلب النجم العادي تتكون نوي ذرات الهليوم, وباتحاد نوي ذرات العنصر الأخير تتكون نوي ذرات البريليوم, وهكذا يتسلسل تخلق العناصر المختلفة في داخل النجوم خاصة النجوم العملاقة أو في أثناء انفجارها, ويؤدي انفجار النجوم إلي عودة ما تكون بداخلها من عناصر إلي دخان السماء لكي يكون مادة لتخلق نجم جديد أو ليصل إلي بعض أجرام السماء في صورة من صور رزق السماء.
ومن المشاهد أن عملية الاندماج النووي في داخل النجوم فائقة الكتلة من مثل العماليق والمستعرات العظام تستمر حتي يتحول قلب النجم بالكامل إلي حديد, فتستهلك طاقة النجم لأن ذرة الحديد هي أكثر الذرات تماسكا, وفي انفجار المستعرات العظام تصطدم نيوترونات دخان السماء بنوي الحديد المتطايرة من عملية الانفجار لتبني نوي ذرات أعلي كثافة مثل الفضة, والذهب, واليورانيوم, وغيرها, كما أن إهاب النجم المتفجر من المواد الاقل كثافة ينتقل أيضا إلي دخان السماء بأنفجار واشتعال شديدين وانبعاث موجات راديوية قوية.
وتتكون المادة فيما بين النجوم من الغازات والغبار( أي الدخان) المكون من جزيئات وذرات وأيونات, ومن اللبنات الأساسية للمادة ويغلب علي تركيبه الايدروجين, والهليوم, والاوكسجين, والنيتروجين, والكربون, والنيون والصوديوم والبوتاسيوم وبعض العناصر الاثقل, وتقدر المادة بين نجوم مجرتنا ببضعة بلايين المرات قدر كتلة الشمس, وتصل كافة العناصر المتخلقة في الكون إلي الأرض عن طريق تساقط الشهب والنيازك, ويصل إلي الأرص يوميا بين الألف والعشرة آلاف طن من مادة الشهب والنيازك لتجدد إثراء الأرض بالعناصر المختلفة التي تمثل صورة من صور رزق السماء الذي يوزع علي الأرض بتقدير من العزيز الحكيم, ولم يكن لأحد ادراك بها من قبل.
ومنذ فترة وجيزة أثبت العلماء أن نجما من نجوم السماء قد تحول إلي كتلة من الألماس تفوق كتلة الأرض عدة مرات, ومن قبيل الفكاهة يذكرون أن هذه الكتلة إذا انفجرت ونزلت إلي الأرض فإن تجارة الألماس سوف تكسد بالقطع.
ويقدر ناتج الطاقة الكلية للشمس بنحو3,86*3310 سعر/ ثانية ويعتبر فيض الطاقة الشمسية الواصلة إلي الأرض أكبر من الطاقة التي تستقبلها الأرض من ألمع النجوم بعشرة مليارات ضعف, وأكبر من الطاقة التي تستقبلها الأرض من القمر وهو في طور البدر مليون مرة.
وطاقة الشمس من رزق السماء, فبدونها تستحيل الحياة علي الأرض....!!
ثالثا: في إطار تفسير السماء بالسماوات العلا
فإن رزق السماء يتمثل في قرار الرزاق ذي القوة المتين, فقد ثبت أن كوننا قد نتج عن عملية انفجار عظيم, وأنه من طبيعة الانفجار أنه يؤدي إلي تناثر المادة وبعثرتها, ولكن انفجارا يؤدي إلي بناء كون بهذه الضخامة في الابعاد, وفي تعدد الاجرام وفي احكام الاحجام, والكتل والمدارات, والحركات والعلاقات المتبادلة من مثل التجاذب, وتبادل المادة فيما بينها هو انفجار لابد, وأن يكون قد تم بتقدير عظيم, من خالق عظيم له من صفات الكمال والجمال والجلال ما مكنه من إبداع هذا الخلق بعلمه وحكمته وقدرته, وهذا الخالق العظيم لابد, وأن يكون مغايرا لكل خلقه فلا يحده المكان, ولا الزمان, ولا تشكله المادة ولا الطاقة, لأنه( تعالي) خالق كل ذلك ومبدعه, هذا الخالق العظيم فوق كل خلقه: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير*( الشوري:11)
يدبر أمر هذا الكون في كل صغيرة وكبيرة, ومن ذلك توزيع الأرزاق علي العباد, فمن الأسماء الحسني لهذا الخالق العظيم البارئ المصور نجد اسم( الوهاب) أي صاحب الهبات والعطايا الخالية عن الأعواض والأغراض, كما نجد أسم( الرزاق) أي خالق الأرزاق والمرزوقين, وموصل الأرزاق اليهم وخالق الأسباب التي تمكنهم من التمتع بها.
وباقي أسمائه الحسني( سبحانه وتعالي) تحمل شيئا من تلك المعاني والصفات الربانية ومنها:اسم( الفتاح) وهو الذي بيده مفاتيح الغيب والرزق, ومفاتيح كل منغلق ومشكل, واسما( القابض) و(الباسط) ومن معانيهما فيض الرزق حتي لا يبقي طاقة, وبسطه حتي لا يبقي فاقه, كما يقبض القلوب والأرواح ويبسطهما كيف يشاء, واسما( المعز)( المذل) الذي يؤتي الملك من يشاء, وينزعه ممن يشاء, والملك من الرزق, والملك الحقيقي يكمن في الخلاص من ذل الحاجة, وقهر الشهوة, وعبء الجهل, واسم( المقيت) ومن معانيه خالق الأقوات وواهبها. و(الكريم) ومن معانيه المعطاء زيادة علي منتهي الرجاء, و(المجيب) ومن معانيه مقابلة مسألة السائلين بالاجابة و(الواسع) ومن معانيه ذو السعة المطلقة من العلم والخير والاحسان وبسط النعم, و(الودود) ومن معانيه الانعام علي سبيل الابتداء بمحبة ورأفة, و(البر) وهو المحسن المتفضل بكل بر وإحسان, و(مالك الملك) أي صاحب المشيئة النافذة, والإرادة الغالبة.
وخلاصة ذلك أن قرار توزيع الأرزاق علي العباد يصدره ربنا( تبارك وتعالي) في علاه فتنزل به الملائكة إلي الأرض تصديقا لقول المصطفي( صلي الله عليه وسلم): إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة, ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضغة مثل ذلك, ثم يرسل إليه الملك, فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه, وأجله, وعمله, وشقي أو سعيد....
وصدق الله العظيم الذي أنزل من فوق سبع سماوات ومن قبل أربعة عشر قرنا قوله الحق:
{وفي السماء رزقكم وما توعدون}
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق